تحرير الشام تطيح بنظام الأسد- تحولات سوريا الإقليمية والدولية

بذهول بالغ، ترقّب العالم التقدم العسكري المذهل لقوات المعارضة السورية – هيئة تحرير الشام – نحو قلب العاصمة دمشق، ثم أُذهل بتحريرها الخاطف، كبرق لمع في سماء مظلمة، من قبضة نظام عائلة الأسد، الذي جثم على صدر البلاد لعقود طويلة، متمسكًا بالسلطة عبر الهيمنة والقمع.
إن المشهد السوري يذكرنا بتقدم حركة طالبان الصاعق في أفغانستان، إلا أن هيئة تحرير الشام انخرطت في سباق محموم مع الزمن، تحسب كل لحظة بدقة متناهية، حتى لا تمنح أي فرصة لتدخل إيراني أو روسي لعرقلة خطتها المحكمة، التي تهدف إلى إسقاط نظام فقد الرحمة والإنسانية، وأذاق الشعب السوري – صاحب التاريخ العريق والحضارة الرفيعة – ألوانًا من العذاب تفوق الخيال.
لقد هوى نظام بشار الأسد إلى مزبلة التاريخ، غير مأسوف عليه، لتبقى الإرادة الشعبية السورية الحرة هي من تحدد مصير البلاد، وتمنح الأمل للمقهورين في كل مكان، بأن للظلم نهاية محتومة، متى استيقظ الشعب وطالب بالحرية والعزة والكرامة.
خسرت روسيا وإيران وربحت تركيا
لم يحظَ أي نظام عربي – من بين الأنظمة التي واجهت رياح التغيير خلال ثورات الربيع العربي – بدعم إقليمي ودولي مماثل لما حصل عليه نظام سوريا، لإخماد صوت الشعب الحر. فقد كان التدخل الإيراني بميليشياته، والتدخل الروسي العسكري الشرس، بمثابة طوق النجاة لنظام الأسد، الذي كان على وشك السقوط المدوي، ليطيل أمد النظام البغيض بعد اندلاع شرارة الربيع السوري لأكثر من عقد كامل.
لكن في الجهة المقابلة، أدّى الاعتماد الكامل على روسيا وإيران إلى إضعاف النظام السوري من الداخل، وتحويله إلى تابع ذليل، فاقد للثقة بنفسه وقدراته على الصمود. لذا، ما إن اندلعت الحرب الروسية الحاسمة في أوكرانيا، وما تبعها من ضغوط اقتصادية هائلة على الاقتصاد الروسي – نتيجة للحصار الاقتصادي الأمريكي المفروض عليه – حتى تراجع الدور الروسي في سوريا عسكريًا، ولم يجد من ينقذه كما في السابق.
الأمر ذاته ينطبق على إيران، الحليف الوثيق لنظام الأسد في المنطقة، حيث تكبدت إيران خسائر فادحة جراء الهجمات الإسرائيلية الموجعة، مما دفعها إلى إعادة النظر في دعم حلفائها في المنطقة، خشية الانجرار إلى صراعات لا طاقة لها بها.
لقد شكّل الانتصار السوري مكسبًا جمًا للتيار الإسلامي السني الواسع، ودعمًا قويًا لحكومة الرئيس أردوغان التركية، وتعزيزًا لنفوذها في المنطقة. ولعل حكومة أردوغان، من خلال دعمها السياسي والعسكري للمعارضة السورية، كانت تسعى إلى تأمين حدودها الطويلة مع سوريا من أي تهديدات مستقبلية، سواء من جهات سورية موالية لإسرائيل، وربما تكون جبهة تحرير الشام قد سبقت الجميع في توجيه الضربة القاضية للنظام السوري المتداعي.
وستستفيد حكومة الرئيس أردوغان – بلا شك – من انتصارات المعارضة السورية في معالجة قضية اللاجئين السوريين في تركيا، وما صاحبها من استغلال سياسي بشع من قبل المعارضة التركية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية الأخيرة.
لا شك أن الرئيس أردوغان هو المستفيد الأكبر من هذه الانتصارات، مؤكدًا مرة أخرى براعته السياسية الفائقة في إدارة ملفات الأزمات في منطقة الشرق الأوسط. وربما تمارس الأطراف الدولية ضغوطًا على هيئة تحرير الشام والقيادة والحكومة السورية الجديدة، مستخدمة ورقة الاعتراف الدولي، لتقديم تنازلات وضمانات أمنية لا تهدد مصالح القوى الدولية، وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة.
بيد أنه من المرجح أن تلعب الدبلوماسية التركية دورًا حيويًا في طمأنة القوى الدولية، ومساعدة الحكومة السورية في تقديم خطاب سياسي معتدل، لا يثير المخاوف الدولية من عودة تجربة شبيهة بتجربة تنظيم الدولة السابق.
لا ريب أن إيران وروسيا قد فقدتا حليفًا وفيًا في سوريا، لطالما حافظ على مصالحهما في المنطقة، وإن كلفه ذلك تدمير وتشريد شعبه. ولربما تساعد تركيا المعارضة السورية في كيفية التعامل مع ملف القواعد العسكرية الروسية في سوريا، حيث يعتبر إغلاق هذه القواعد بمثابة طي صفحة التدخل الروسي في الشأن السوري إلى الأبد، الأمر الذي يتطلب الكثير من الحذر والكياسة السياسية في الوقت الراهن.
وبسقوط نظام الأسد، فقدت إيران أحد أقوى حلفائها في المنطقة العربية، ولعل سقوط نظام الأسد يمثل خسارة أشد وطأة وأكثر إيلامًا لإيران من الخسائر العسكرية لحزب الله بسبب العدوان الإسرائيلي عليه.
كما يعني سقوط نظام الأسد انقطاع حلقة الوصل بين حزب الله ودولة إيران، الممتدة لأكثر من أربعة عقود، مما يضعف من قدرات حزب الله العسكرية، ولا ينسى الثوار السوريون الجرائم التي ارتكبها حزب الله في سوريا أثناء الحرب الأهلية، ومساندته القوية لنظام الأسد.
ستدرك إيران كذلك أن حلفاءها في المنطقة لم يعودوا صمام أمان لأمنها القومي، مما سيعجل بخططها لإنتاج السلاح النووي في أقرب وقت ممكن، مما يعني عودة الملف النووي الإيراني بقوة خلال الأشهر القادمة.
هل يسدل ترامب الستار؟
جاء هجوم المعارضة السورية كالصاعقة، إدراكًا منها بالتحولات الإقليمية والدولية، وضرورة استغلالها سريعًا، في غضون شهرين فقط، وهي الفترة المتبقية قبل دخول الرئيس الأمريكي الجديد البيت الأبيض، وما يترتب عليه من وقف نزيف الحرب الأوكرانية – غالبًا لصالح روسيا – مما قد يمكّن بوتين من تقديم الدعم العسكري لحليفه العربي الوحيد في منطقة الشرق الأوسط.
أطلق الرئيس المنتخب ترامب تصريحًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أوضح فيه معالم سياسته المستقبلية تجاه الصراع في سوريا، مؤكدًا أن هذا النزاع لا يخص الولايات المتحدة، وبالتالي يجب على أمريكا أن تنأى بنفسها عنه.
الجدير بالذكر أن الرئيس المنتخب ترامب يواصل الإدلاء بتصريحات نارية تخص التجارة الدولية، مهددًا برفع الرسوم الجمركية ضد المكسيك وكندا والصين وغيرها، أو فيما يتعلق بالحرب في غزة أو سوريا، وكأنه الرئيس الفعلي للولايات المتحدة، متجاهلًا وجود الرئيس بايدن في السلطة، ومخالفًا بذلك التقاليد الأمريكية العريقة، التي تنص على عدم تدخل الرئيس المنتخب في الشؤون السياسية والعملية السياسية، حتى توليه مقاليد الحكم في البيت الأبيض في العشرين من يناير/ كانون الثاني القادم.
لم تنجح محاولة ترامب خلال ولايته الأولى في سحب القوات الأمريكية – رغم محدودية عددها الذي لا يتجاوز الألف جندي أمريكي – من سوريا، منتقدًا تدخل سلفه أوباما في الشأن السوري. وربما تجد إدارة ترامب القادمة نفسها في مواجهة معضلة حقيقية في سوريا، حيث سيؤثر انتصار هيئة تحرير الشام بلا شك على ميزان القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
ولكن هل يسدل ترامب الستار الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط؟ لا شك أن النفوذ الأمريكي في العالم عمومًا، وفي منطقة الشرق الأوسط وسوريا تحديدًا، قد تضاءل بشكل ملحوظ. وربما لا يمتلك ترامب رؤية واضحة حول مستقبل النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وغيرها من مناطق الصراع في العالم، بما في ذلك سوريا حاليًا.
وعلى الرغم من اهتمام ترامب البالغ بتقليل نفقات التدخلات الخارجية الأمريكية، بما في ذلك أوكرانيا، فسيجد أن سياسته – حال تنفيذها بحذافيرها – ستكون بمثابة بداية النهاية لعصر الهيمنة الأمريكية.
لكن ترامب سيحاول استخدام تصريحات ذات نبرة استعلائية، أقرب إلى الهيمنة السياسية منها إلى الدبلوماسية، مثل إعلانه أن إعاقة إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين سيواجه بـ "جحيم" رد أمريكي، دون تحديد من يقصد بذلك، وماذا يعني بالجحيم تحديدًا – هل هي حرب أمريكية قادمة أم ضربات جوية مدمرة؟
لقد سبق أن أدلى ترامب بتصريحات مماثلة – خلال ولايته الأولى تجاه كوريا الشمالية – لينتهي به المطاف مصافحًا زعيمها، ومتبادلًا معه عبارات المودة والثناء السياسي، التي لم يُكْشف عن مضمونها بعد.
يبدو أن موقف ترامب حيال سوريا سيكون مشابهًا لموقف إدارة بايدن الحالية، التي تبدو عليها علامات الرضا لسقوط نظام الأسد، حليف روسيا وإيران القوي. إلا أنها في الوقت نفسه ستظل متخوفة من الخلفية الجهادية لهيئة تحرير الشام، وستحاول قدر الإمكان التواصل معها لترويض إرادتها السياسية.
لكن يبدو أن هيئة تحرير الشام أكثر نضجًا سياسيًا من أن تقع في براثن الأطماع الغربية. وعليه، سيكون الملف الأمني وإدارة مؤسسات الدولة، وتسيير عجلة العمل الحكومي لتوفير السلع والخدمات الضرورية للمواطنين السوريين، على رأس أولويات الهيئة في الوقت الراهن.
كما ستسعى جاهدة لتأمين حياة قيادتها السياسية والعسكرية من محاولات الاغتيال، التي تهدف إلى النيل من روح التغيير السياسي في سوريا، خدمة لمصالح جهات أجنبية لا ترغب في عودة بلاد الشام سالمة معافاة لأمتها الإسلامية.
سيكون انتصار المعارضة السورية بشرى خير للفلسطينيين، وإنذارًا لإسرائيل – حليفة أمريكا القوية – باعتباره سيمهد الطريق لإقامة أول نظام إسلامي على حدود إسرائيل، قوامه جيش أدهش العالم بسرعته الخاطفة في التحرك والحسم العسكري، مما يفسر قصف إسرائيل لمخازن أسلحة سورية كانت تحت إدارة جيش بشار الأسد، خشية وقوعها في يد هيئة تحرير الشام.
لطالما شعرت إسرائيل بالأمان في ظل حكم عائلة الأسد، ولذلك لم تكن تخشى حينئذ من أسلحته الكيماوية، التي لم يستخدمها نظام الأسد إلا لإبادة شعبه الأبي.
ستحاول إسرائيل جاهدة استفزاز جبهة تحرير الشام، بغية ترويضها مبكرًا، أو مواجهتها باختلاق العديد من المشاكل الأمنية والدولية لها، حتى لا تقوم لها قائمة.
لقد حكمت عائلة الأسد سوريا طوال خمسين عامًا، بقبضة من حديد لا تعرف الرحمة والشفقة، بيد أنه لم يستغرق الأمر أكثر من اثني عشر يومًا لينزع الله ملكهم نزع عزيز مقتدر، فهل يتعظ الطغاة وطواغيت الأرض.